العاجيات
الفن هو تعبير الإنسان عن ذاته، ودراسة الفنون بشتى أنواعها هي إحدى محاولات الكشف عن تلك الذات، الذي يتمثل في الإبداع الفني والذي بدوره يميز الإنسان في مجتمع ما عن غيره من المجتمعات الإنسانية الأخرى.
نشأ الفن منذ آلاف السنين في حياة الإنسان نشأة طبيعية، وذلك بعد أن استطاع توفير حاجاته الأساسية من مأكل ومشرب ثم مسكن. بدأ اهتمامه بصنع تشكيلات وتحف فنية متعددة، حيث صنع المجوهرات من الذهب والفضة والنحاس والبرونز. كما صنع التماثيل والأقنعة وأدوات أخرى من الطين والفخار، ومن العظم والخشب، ومن العاج، ومن مواد أخرى حصل عليها من بيئته أو استوردها من الخارج.
والعاج من المواد النادرة التي استخدمت على مدى واسع منذ أقدم عصور التاريخ ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى كثافة ودقة حبيباته وقابليته للنقش والحفر. برع القدماء في استعمال ناب الفيل، وكانت المنحوتات والمحفورات العاجية تصنع أحيانا أو ترسم عليها صور ملونة. كان اللون الأحمر هو المستعمل بوجه عام، إلى جانب اللون البني والأسود والأخضر. استخدم العاج في صناعات متعددة مثل الخلاخل وأطراف السهام، والصناديق، والأساور، والأمشاط، والأسطوانات المنقوشة والصحاف المسطحة، وصناعة التماثيل الصغيرة للإنسان والحيوان، ودبابيس الشعر، وأيدي السكاكين والخناجر ومقابض المدى والسيوف، والمراوح والسياط، ورؤوس حراب الصيد الكبيرة، والتراصيع، وأرجل الأثاث، ورؤوس الصولجانات واللوحات، والأواني، وفي تطعيم بعض التحف المصنوعة من الخشب كالكراسي والأسرة ومصاريع الأبواب والمنابر.
يتميز العاج بليونته في النقش وسهولة الحفر فيه، بخلاف العظم الذي يجد النقاش صعوبة في نقش زخارفه عليه، لاسيما الصور الآدمية والحيوانية التي تستلزم دقة في الأداء لصلابته. لم يكن من السهل الحصول على العاج، فهو من المواد الخام التي لا يمكن الحصول عليها من باطن الأرض أو في الصخور المعدنية كالذهب والفضة والحديد والنحاس، أو يمكن استخلاصه من بعض المنتجات الزراعية كالخشب وألياف الكتان والنارجيل، ومصدره قاصر على أنياب الفيل التي لا تتوفر إلا في الهند وجنوب شرق آسيا (تايلاند، مثلا) وفي المناطق الاستوائية والسافانا الغنية في أفريقيا، وقد اعتبر من المواد النفيسة وذلك لندرته، وصعوبة الحصول عليه.
العاج الحقيقي يصنع من أنياب الفيل وأنياب جاموس البحر. ويتكون من عاج الأسنان الذي يتألف تقريبا بنسبة 1:3 كولاجن: هيدروكسي أباتيت، مع 10% من وزنه ماء. وهذا خلاف مادة العظام، فالعاج يتميز ببنية تحتوي على صفائح ناتجة عن نمو العصبات المطوقة ولا يحتوي على نظام قنوات. ويتميز العاج ببنية ظاهرة ذات أنبوب ناعم، وشكله الدوار ينتج نماذج ما يطلق عليه أسم " دوران الماكينة " التي يعرف بها العاج الحقيقي. في أثناء عملية التصنيع يمكن تليين العاج بالماء الحار، وهذه احد الطرق الناجعة إلى حد ما، كما يمكن أيضا تليينه بمادة الخل. أما بالنسبة للحجم والشكل المحدد للمادة الخام فيلاحظ أن كثيرا من القطع الأثرية تحتوي على مفاصل. يختلف لون العاج على حسب أصوله، حيث يبيض في الضوء، ولكن مع كثرة التناول والاستخدام يتفاعل وينتج مادة بنية وصفراء من الدهون والمواد التي تفرز من الأيدي.
أما العاج البحري المقطوع من القواطع العليا لأنياب جاموس البحر، الذي يعد متشابها في التركيب الكيميائي للأنياب العليا للفيل، ولكنه من الداخل يظهر شبه شفاف، مع ظهور بعض ظهور بعض العلامات المعتمة الدائرية؛ وينتج هذا التركيب جزئيا عن التبلور.
العاج من المواد العضوية التي تتأثر بدرجات الحرارة العالية وكذلك الرطوبة العالية حيث تتسبب في تقلص أبعاده، فدرجة حرارة 30 درجة مئوية تتسبب في تقصير وتقليص أبعاده بنسبة 0.2%.
العاج من المواد الصناعية القيمة التي استخدمها قدماء المصريون في أغراض الزخرفة، حيث استخدم في مصر القديمة منذ العصر الحجري الحديث(5000 – 3100 ق.م) وفيما بعد. وأصل العاج هو ناب الفيل وناب جاموس البحر. وقد برع قدماء المصريون إلى درجة كبيرة في حفره والنقش عليه. كان استعمال ناب الفيل في مصر يدل على أن الفيل كان معروفا فيها إلا أنه لا يعني أنه كان يعيش بها، وأن العاج كان موفورا يمكن الحصول عليه في يسر وسهولة، لأن الفيلة تعيش بكثرة في البلاد التي تقع جنوب مصر؛ أي في البلاد الإفريقية. وأما جاموس البحر فهو موجود بكثرة في مصر منذ مئات السنين. وبناء على ما ورد ذكره في النصوص القديمة فقد كان يحصل على العاج في عهد الأسرة السادسة ( 2345 – 2181 ق.م) من بلاد أفريقيا، وفي عهد الأسرة الثامنة عشرة ( 1567 – 1320 ق.م) من بلاد بنت (بونت)، وأرض الرب، وبلاد جنتيو وبلاد كوش، والأقاليم الجنوبية. وكانت جميع هذه الأقاليم أفريقية تقع إلى جنوب مصر. كما كان يجلب في عهد الأسرة الثامنة عشرة أيضا من تجنو وكانت هذه البلاد أفريقية أيضا، ولكن تقع في غرب مصر، ومن بلاد رتنو وإيسي التي كانت تقع في آسيا.
استخدم البيزنطيون العاج في الفنون الصناعية، وشاع استخدامه في الفنون الزخرفية وتطعيم الخشب حيث بلغت التحف العاجية في زخارفها الغاية في الروعة والدقة والإتقان.
احتلت الجزيرة العربية موقعا جغرافيا متميزا بين مراكز الحضارات العالمية القديمة. ومن خلال موقعها الجغرافي تهيأت لها عدة عوامل جعلت منها مركزا تجاريا مهما في العالم القديم، وفي مقدمة هذه العوامل:
1) موقعها المتوسط بين الحضارات العالمية القديمة في الهند، إيران، العراق، بلاد الشام، مصر وفي شرق أفريقيا.
2) إطلالها على سواحل ممتدة بموانئها وخلجانها على البحر الأحمر وعلى الخليج العربي وبحر العرب.
تعامل تجار الجزيرة العربية مع مناطق الإنتاج الأخرى في سواحل أفريقيا الشرقية ومع سواحل الهند الغربية، وكانوا الوسيط التجاري في نقل التجارة وتصديرها إلى أسواق العالم الخارجي في العراق وبلاد الشام ومصر واليونان وايطاليا. كانت تجارة الهند من مواد عطرية وبخور وتوابل ومنسوجات، بالإضافة منتجات شرق إفريقيا من العاج والذهب وغيرها، تتجمع كلها في جنوب الجزيرة العربية ثم ينقلها العرب عبر الطرق البرية التي تخترق الأراضي التي تشغلها المملكة العربية السعودية حاليا.
أدت هذه الطرق التجارية إلى نماء عدد من المدن والقرى. ففي الجانب الغربي على الطرق الرئيسة المتجه إلى مصر وبلاد الشام ازدهرت مدن كثيرة، مثل نجران وجرش والطائف ومكة ويثرب ودادان (العلا) والحجر. كما ازدهرت موانئ الحوراء أملج وميناء الوجه وعينونة على البحر الأحمر. كما ازدهرت أيضا مدن أخرى على الطريق المتجه من مدينة نجران إلى إيران وبلاد الرافدين عبر نجد والمنطقة الشرقية، مثل قرية الفاو واليمامة والأفلاج وثاج. وكذلك ازدهرت مدن أخرى على الطريق المتجه إلى سوريا، مثل تيماء ودومة الجندل.
تشير الأدلة الأثرية والمصادر المكتوبة أن العاج كان من المواد المنتشرة في المواقع الأثرية لعصور ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية. حيث ورد في كتابات بلاد الرافدين منذ فترة حضارة أورك، أي نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، أن السلع التجارية المصدرة إليها من دلمون تشتمل على الذهب والبرونز والنحاس والفضة والعاج ومصنوعات من العاج.
لقد أوضحت الأدلة الأثرية المكتشفة بالمواقع الأثرية في المملكة العربية السعودية التي تمثل فترة ما قبل قيام الممالك العربية مدى عناية الإنسان بمظهره وجمال هيئته، فهو شديد الحرص على كل ما يزيد في حسنه ويؤكد جماله بالتزين بالحلي على اختلاف أشكالها أنواعها، فقد عرفت الأقراط، والخواتم، والأساور، والأمشاط إضافة إلى القلائد، وهي في جملتها مصنوعة من خامات محلية أو مستوردة سهلة المعالجة، أكثرها شيوعا الأخشاب والعظام إلى جانب العاج والأصداف البحرية.
أظهرت أعمال الحفر والتنقيب الآثاري في موقع المنطقة الصناعية بتيماء – وهو من المواقع المهمة داخل سور تيماء القديمة – عن الكشف عن مادة أثرية معدنية، ومجموعة من الخرز، وأدوات الزينة المصنوعة من العاج اشتملت على أساور، وقلائد، وأقراط بالإضافة إلى مجموعة من الأصداف البحرية.
ويضم متحف الآثار بين مقتنياته مجموعة قيمة ونادرة من المشغولات العاجية تظهر تطورا ورقيا في الصناعة مما يشير إلى أن الإنسان الذي استوطن شبه الجزيرة العربية كان على درجة عالية من الإبداع التقني في مجال الصناعات الفنية العاجية، وقد أنتج نماذج عديدة لم تقتصر على نماذج ذات صناعة محلية منعزلة، ولكنه جمع في صياغته لتلك النماذج أدق اللمحات الفنية التي كانت سائدة آنذاك في منطقة الشرق الأدنى القديم.
تعتبر الخناجر من المقتنيات النادرة التي يحتويها متحف الآثار بجامعة الملك سعود، وهي من الحلي التي يعتز باقتنائها الرجل حيث تثبت في وسط حزام يشد وسط جسد الرجل، وتصنع سلاسلها من حديد خاص وتطعم مقابضها وأغمادها بالعاج والذهب والفضة، وهي كالسيوف، حيث تستعمل أسلحة في الحروب وزينة في السلم.
وتضم المعثورات الأثرية مجموعة من أدوات الزينة والتجميل التي صنعت من العاج وهي عبارة عن خواتم، وأقراط، وقلادات، وعقود، ودبابيس، وأمشاط، ومراود، وأواني وكثير من أدوات الزينة المزخرفة والمطعمة بالعاج.
كما تضم المجموعات العاجية مجموعة من أقراص العاج استخدمت كمغازل، أكثرها مسطح من جانب ومحدب من جانب آخر، بوسطها ثقب نافذ، وعليها زخارف؛ هي عبارة عن خطين دائريين محزوزين. كما توجد قطعة مصنوعة من العاج مهذبة وناعمة الملمس، لها طرف شبه مدبب أو دائري، أما الطرف الآخر فهو حاد من الجهتين. من المحتمل أن تكون القطعة على هذا النحو قد استخدمت كأداة طبية؟ ولكن الأرجح أنها استعملت أداة نسيج.